عيون أنثى
قصة قصيرة
رمضان سلمي برقي
كُنت دوماً أحار من طبيعة نظرات الإناث، وما يقال عنها..
يقال أن نظراتهن تختلف عن نظرات الرجال!.
نظراتهن وإن كانت خاطفة لاتكاد تشعر بها، فهي كافية لتجسيد نُسخة منك وتعتيقها على رف من رفوف عقلها المتينة ... غريب أليس كذلك!.
أما نظراتنا نحن معشر الرجال، فتلتقط صورة واحدة لا أكثر، وتضعها على أهم رف برفوف عقولنا، أما الصورة فهي للجسد وأحياناً لقطة عابرة للوجه، سرعان ما تبهت ألوانها، وتضيع خطوطها وتتشابك مع خطوط عشرات الوجوه التي قابلناها حقيقة وخيالاً..
أعتقدُ أن هذا ما حدث معي؛ لم تكن نظرتها الخاطفة مجرد عابرة سبيل، بل كانت بكل تأكيد ذكية مُتفحصة! وأنا كنتُ جاهلاً بتلكم الحقيقة، حتى أتى يوم وطفح إنائها بقطرات الوله المُلتهبة، ولم تجد بداخلها عزماً لكبح جماح قلبها المُتيم..
اِعترضَتْ طريقي، حينما كنتُ ماراً بالطُرقة الضيِّقة صوب مكتب مدير القسم الذي أنتمي إليه بالشركة التي كنا نعمل بها، وكانت هي خارجة منه، كانت مُتأنقة بملابسها السوداء، وبشرتها النضرة البيضاء، التي ما إن تراها حتى تشعر أنها مُضاءة بكهرباء خفية!.
كانت قامتها متوسطة الطول، وممتلئة الجسم، امتلاءً جذاباً، يجعلك تشعر بثقلها ليس على الأرض، ولكن في الحياة، وفي القلوب!.
أشارتْ بيدها إليّ كي أتوقف، ثم تلعثمتْ حروفها، ولم تنطق. وشرد عقلها يرتب كلمات؛ كنتُ واقفاً وبيدي حزمة أوراق، بانتظارها أن تَخرُج كلماتها، ولكنها تأخرتْ، عندئذ اضطررتُ أن أقول أي شيء، وما وجدتُ سوى تلك الجملة، فقلتها بتلقائية:
- تبدين أنيقة اليوم؟
ثم صَمَتُ أتأملها؛ أقسم أني سمعتُ أزيز مكابح التروس بعقلها، والتي توقفت فجأة، بسبب مُقاطعتها من قِبَلي. ولازلتُ أتذكر أثر وقع الكلمات على وجهها الذي نقأ فجأة، وتناوبتْ شتى الألوان على زخرفته، وعيناها السوداوان الواسعتان الكحيلتان، اللتان تعلقتا بي لحظات، كطفل هددته أمه بالرحيل عنه، وتركه وحيداً، ثم سقطتا أرضاً في خجلِ وصمت أنيقين!.
هل كانت تحبني، وأنا لا أدري؟!
هل كانت ستعترفُ، والجرأة هي التي نقصتها؟!
تساءلتُ، ولكن ما جدوّى تساؤلي حينذاك، إذ سمعتُ جرس مكتب المدير، فأفقتُ من تأمل صمت حيائها الجميل، ودلفتُ صوب المكتب، ثانياً رقبتي، أراقبها بعيناي، وهي تدلف صوب القسم الذي يجمعنا، تقدم ساقاً وتؤخر أخرى!.
أتذكرها دوماً؛ كانت تداعبني بنظراتها، وتهدهدني برموشها، وتدثرني بحاجبيها. كنت أشعر بصهد حنانها؛ في زمهرير الشتاء يدفئني، وفي قيظ الصيف يُنعشني؛ كان يغادرها، ويصلني حيث أجلس على المكتب، المُقابل لمكتبها، لا تفصلنا سوى مسافة لا تتعدى المترين، ومن حولنا العواذل... بقية الزملاء.
حتى وأنا مُنهمك في الأوراق، أشعر بأنها تنظر إليّ، فأرفع رأسي فجأة، فأجدها تختطف رأسها، وتجبره على الإطراق، مبتسمة ابتسامتها العذبة إياها... أليس ذلك بحب!
كان حبها لي ظاهراً للعيان؛ ابتسامتها التي تُجبرني أن أبتسم إذ رأيتها، مُرتسمة على وجهها، في أي حالة كنتُ، أو كان مزاجي، تأمرني أن أسعد، فأسعد. تنتشلني من وهدة الضيق، إلى رحابة آفاقها، حيث لا حدود لأي شيء كان ذا حدود قديماً!.
توقفتُ قبل أن أقبضُ على مِقبض باب مكتب المدير، فكرتُ: تزوج التي تحبك؟ هكذا يقال دائماً، وما أدراني؟ لربما أحبها، أو أنني مع الأيام سأحبها، وخاصة أني لم أحب فتاة حتى الآن!.
تراجعتُ سريعاً، وقصدتُ القسم، ولمّا دخلته، وجدتها تنظر لي باستغراب ممزوج بابتسامة شجعتني على أن أقول لها وللجميع آنذاك:
- هل تقبلين أن تتزوجيني؟.
شغروا أفواههم والتزموا الغمز واللمز، أما هي فضحكتْ، ولكنها ضحكة جديدة؛ لم أرها مُنطبعة على وجهها من قبل، ثم قالت بسخرية:
- أنت مثل أخي، دعك من المزاح يا زميلي العزيز، وعُد لعملك؟.
ما هذا الهراء!؟ صُدمت، وتلجلجت، وسخر مني عُذالي، وتطايرت ضحكاتهم في كل الاتجاهات!.
تأبطتُ أوراقي، وغدوتُ نحو مكتب السيد المدير خائباً، سادراً، مُتسائلاً:
وماذا عمّا كنت أشعر به منها!؟.
دخلت المكتب، ووقعنا الأوراق، ثم دلفت صوب الباب، وهممتُ أن أخرج، لولا أن استوقفني مديري قائلاً:
- إنها تحبك... هكذا أوصتني أن أقل لك، لأنها تستحي منك..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق